تحقيق من إنجاز عبد الهادي احميمو *** تتباهى معامل تصبير السمك بأسفي بتصديرها ما يناهز 85 في المائة من إنتاجه إلى مئة دولة في القارات الخمس، لذا يكون واقع معامل التصبير السمك بحاضرة المحيط مدينة (أسفي ) في مأساة و خروقات معيبة،لدا يمكننا أن نتساءل حول مضمون الاتفاقيات الدولية والمحلية، الموقعة في قطاع يعيش منه أكثر من 30 في المائة من سكان البلاد.
في الوقت الذي تفتخر فيه مدينة أسفي و المغرب بصفة عامة باحتلاله مكانة متميزة على مستوى الدولي في صناعة تحويل منتجات الصيد البحري، ومعالجتها وطنياً لما يقارب 70 في المائة من أفراغات الصيد الساحلي، كما يتباهى أصحاب المعامل الأسفيون بتصديرها لما يناهز 85 في المائة من إنتاجه إلى مئة دولة في القارات الخمس، وواقع أن معامل التصبير في أسفي مأساة وخروقات معيبة، تضع موضع التساؤل مضمون الاتفاقيات التي تم توقيعها في قطاع يعيش منه أكثر من 30 في المائة من سكان البلاد.تحت رحمة أصحاب المعامل والعمال الموالين لهاته المعامل بما فيهم الرجل الذي يسمى نفسه الميستروا والنساء الكابرانات زد على ذلك مناديب الهيأة النقابية .
أسفي ..الوجه المشؤوم والمعتم لقطاع التصبير بالمعامل الأسفية ..
لم يكن من السهل التقصي والبحث في موضوع النساء العاملات في معامل تصبير السمك بجنوب مدينة أسفي في أكثر من وحدة تصنيع سمك . هناك من جهة ذكريات أليمة ما زالت طرية يختزنها سكان أسفي جراء إنتهاء مدونة الشغل لدى العاملات بمعامل تصبير السمك التي يعتبرها الكل التي تعيش على الحكرة و الاحتقار والتعسف التي تعتبرها تلك النساء العاملات “لا إنسانية“.
في الخامسة صباحا أي مع أدان الفجرً وصلنا لبعض الأحياء حيث نجد مجموعة من النساء ينتظرن حافلات النقل التي تنقلهم للمعامل . و أمام هاته المعامل حيث موقف الحافلة التي تنقل عاملات مصانع تصبير السمك إلى مكان العمل بمنطقة “شمال أسفي” نجد أن هاته الحافلات مملوءة بكثرة أكثر من اللازم وفي ظروف صعبة وربما تغيب عنها الصيانة و حتى التأمين.مما تكون حالة هاته النساء العاملات في خطر ، والصقيع يلف المكان كما الظلام الحالك، فلا تكاد تسمع سوى دبيب أقدام الكلاب الضالة وعويلهم والقطط والفئران . من بعيد تتراءى لك أجساد أشخاص قادمين، لا تساعدك الإنارة العمومية الخافتة، بل شبه المنعدمة، على تمييزهم. وعلى جوانب الطريق “شاحنات” و”باصات” واقفة مطفأة الأنوار. بدأتْ تظهر أجسام نساء ملثمات، لا يكاد يُرى من ملامحهن شيء سوى نظرات مترددة تتسلل من خلف حجاب التحفته بعضهن للتدفئة، فيما ارتدته أخريات لضمان “الوقار”، وفعلت بعضهن درءاً لهويتهن عن عيون المتلصصين والفضوليين.
بشمال المدينة السيدة . ف ، سيدة خمسينية، من صاحبات العيون الحائرة والأيادي التي أذابتها مياه السمك الساخنة، وزيته، في معامل تصبير السمك الإثني عشر بمنطقة “سيدي عبد الكريم “. جلستْ على حجر كبير في موقف الحافلة تنتظر تلك التي ستأخذها لمعملها و هي تتناول كسرة خبز و صحن من الحريرة عند أحد الباعة المتواجدين في تلك المنطقة . استغلت هذه الدقائق المتبقية وطلبت منها التحدث إلينا عن ظروف اشتغالها “القاسية” على حد تعبيرها، في واحد من أكبر مصانع المنطقة الذي تشكّل السوق الأوروبية أهم الوجهات الرئيسية لمعلباته (بنسبة 47 في المئة) وتليها السوق الإفريقية (بنسبة 37 في المئة).
جوج بحورة والفوسفاط مزارد المغرب المستنزفة و المسكوت عنها
تقول . ف . أنها و مجموعة من النساء من زميلاتها اللواتي يشتغلن في مجموع مصانع المنطقة، يتقاضين الحد الأدنى للأجر بصفة أسبوعية أو نصف شهرية، حيث يقدر المبلغ الذي يتقاضونه شهرياً ب 1250 درهم، مقابل 10 ساعات يومياً وبثمن هزيل وهزيل جدا تبدأ من الساعة السابعة صباحاً إلى السابعة مساءً: “وعلى الرغم من كوننا نشتغل في تصبير السمك وحرفتنا في يدنا مع هذه الشركة التي تصدِّر إلى الخارج وتربح ملايين الدراهم، إلا أنه لم يجرِ الاعتراف بنا قانونياً وتسجيلنا في صندوق الضمان الاجتماعي إلا نادرا في بعض الأحيان ، وبالتالي لكِم أن تتخيلو كم سنة ضاعت علينا من التقاعد، ونحن على مشارفه”. تقول . ف . وهي تمسح جبينها، أن ما ساقها للعمل، هو “الفقر وقسوة الزمن و موت الرجل الذي كان يصرف عليها وعلى أبناءها “. فهي تسعى لكسب قوت اليوم، وإعالة أفراد أسرتها المكونة من ثلاثة بنات ورجلين شقيقا زوجها المتوفي أقعدهم المرض. إذاً لا بدّ لها من تحمل ظروف التنقل وطول ساعات العمل وأخطار الطريق، وغير ذلك من الصعوبات التي تظل لصيقة ب” الكارطة ” التي يسجل عليها ساعات العمل بمعامل التصبير (بالنظر للباسهن الذي يغطي ملامحهن فلا تظهر سوى عيونهن). و”لابد من القول أننا نخرج بالذكر الحكيم، ونتضرع إلى الله بأن نعود إلى أبنائنا سالمات كل يوم”، مشددة على أن شركات تصبير السمك بأسفي لا تحترم مدونة الشغل وصعوبات الكابرانات والميستروا ومناديب الهيأة النقابية زيادة على ذلك السب والكلام النابي ، وعلى الرغم من الأموال الطائلة التي تربحها مقابل عملهن، إلا أن أرواحهن بالنسبة لها لا تساوي “جناح ذبابة”. وهن يجدن أنفسهن أيضاً أمام واقع “الطريق” حيث تخصص لهن الشركات حافلات مهترئة لا تخضع للصيانة..
ما تقوله ف – التي سبق لها أن تعرضت لحادث شغل بالمعمل و لم يتم تعويضها سوى أيام قليلة من الراحة و بدون أجر، تسبب لها بحروق في جسمها ، وفقدت فيه جارتها وصديقتها – أكده الفاعل النقابي، الذي اعتبر أن تلك الحوادث يفترض أن تدرج كـ”حادثة شغل بموجب المادة الرابعة من القانون رقم 18.12، والمتعلقة بالتعويض عن حوادث الشغل، باعتبار أن النساء يكنَّ على متن حافلة تقلهن ذهاباً وإياباً بين المعمل وبيوتهن، وذلك بموجب عقد شراكة بين شركة تصبير السمك وشركة النقل. لكن يجري التلاعب بالقانون، ولا تعترف الشركات بمسؤوليتها عن أزيد من 7 حوادث وقعت للعاملات “
ف ، إمرأة خمسينية التي أذابت مياه السمك الحارة وزيته أصابعها تقول: “نتقاضى 1250 درهم شهرياً مقابل لقاء 10 أو 12 ساعة من العمل. وهدا كله في صالح الشركة التي تصدِّر منتوجها إلى الخارج وتربح ملايين الدراهم، إلا أنه لم نُسجّل في صندوق الضمان الاجتماعي. لتضيع علينا سنوات من التقاعد، ونحن على مشارفه“.
و في حديث مع النقابي وصف ظروف اشتغال النساء العاملات في معامل تصبير السمك بالكارثية. فـ”بغض النظر عن كونهن يتقاضين الحد الأدنى للأجر مقابل 44 ساعة عمل في الأسبوع، فإن طريقة نقلهن في حافلات النقل لا تحفظ كرامتهن، بحيث يجري تكديس ما يزيد عن 70 سيدة في تلك الحافلات المهترئة، والتي تسير في طرق وعرة و طويلة ربما من خارج المدينة حتى البوادي المجاورة كلها منعرجات وانحدارات، وبالتالي فإن هذه الحوادث متكررة ودورية هنا”.. ثم يتساءل: “إلى متى ستتجاهل الدولة هذا الوضع؟“.
رحلة من الرعب.. تقود إلى نفق التحرش
في موقف الحافلات، إلتقينا أيضاً شابة تسمى ، ز، التي كانت مستندة على عمود الإنارة الخافتة، مرتدية منامتين مزركشتين وسروالاً سميكاً وثلاث جوارب. هي شابة في الخامسة والثلاثين من عمرها، لم تشفع لها إجازتها في الجغرافيا بأن تتجاوز جغرافيا قدرها الذي قذف بها إلى معمل تصبير السمك. تحكي لنا بأسى كبير كيف تستيقظ كل صباح مع طلوع الفجر، لتطبخ غذاء ابنها الذي تؤمنه عند جارتها، ثم تمشي لما يقارب ربع ساعة في الخلاء وتحت الظلام الدامس صباحاً، فقرار الحكومة المغربية المفاجئ بترسيم الساعة الصيفية (GMT+1) طيلة السنة، أثّر بشكل مباشر على العاملات في هذا القطاع، ممن يجدن أنفسهن مضطرات إلى الخروج قبل شروق الشمس.
ز، تحس بأن الطريق التي تقطعها وحيدة للوصول إلى موقف الحافلة “تطول جداً” في هذا الوقت من الصباح، فهي تمشي مردِّدة ما تيسر من القرآن لعله يحميها من قطاع الطرق، الذين سبقوا وتعرضوا لها أكثر من مرة تحت تهديد السلاح الأبيض: “هم أكيد لن يجدوا ما ينهبونه من امرأة ذاهبة إلى العمل في مصنع، ولا تحمل معها إلا 20 درهماً على الأكثر، لكن ذلك الرعب الذي يتلبسنا وقتها لا يمكن وصفه أو تقديره”، مشددة على أن المخاطر لا تنتهي عند موقف الحافلة أو على متنها، وإنما داخل المعمل نفسه حيث تتعرض بعضهن للتحرش، وهي الظاهرة التي تمس العازبات والمتزوجات المطلقات على حد سواء، وأبطالها رؤساء مباشرون أو مكلفون بمهام داخل الوحدة، أي ممن لديهم سلطة على العاملات. وأحياناً أيضاً يأتي التحرش من زملائهن الرجال: “فالمرأة الحلقة الأضعف، لكن، أقول لكم وبكل جرأة أن العاملات يُساهمن في تفشي الوضع، وذلك بقبولهن للأمر والرضوخ لنزوات المتحرشين، وغياب الجرأة لديهن في الجهر أو تقديم الشكاية ضد المعتدين”، على حد تعبير المتحدثة.
وسجلت ، ز، أن العاملات في هذا القطاع تتسترن على الأمر بسبب الخوف من فقدان العمل، وبالتالي هن مضطرات للرضوخ لهذه الممارسات، التي تتعدّد أصنافها وأشكالها، على اعتبار أن العمل في المنطقة شبه منعدم، وهو هنا لا يتطلب شهادة أو دبلوماً، ولكنه يتطلب “سمعة طيبة“. والكلام ينتقل بسرعة بين المعامل، وبالتالي فلا أحد سيشغل عاملة انتفضت ضد مشغّلها أو رئيسها، حتى و إن كانت صاحبة حق ، فهي بالنسبة لهم صاحبة “مشاكل“.
أسفي .. القانون في اليد و الحقوق على الشجرة
مرت نصف ساعة ثقيلة، وقدمت حافلة مهترئة عالية الصوت كنفاثة هربت من شريط سينمائي يوثق للحرب العالمية الثانية.. تكدست النساء اللواتي قارب عددهن 45 امرأة، ومعهن 10 عاملاً، في هذه الناقلة التي أقلّتهم ببطء إلى المعمل، حيث كان ينتظرهم “الكابران” (المسؤول عن العمال في المصنع) ليضع أمامهم لائحة الحضور من أجل التوقيع، قبل أن تنتقلن إلى غرفة تبديل الملابس لارتداء زي العمل، وهو عبارة عن وزرة زرقاء وقفازات يدوية بلاستيكية يُفترض أن تحمي أيديهن من التآكل، بسبب الزيت الحار المستخدم في تعليب السمك، أو خلال عملية التقشير اليدوية.
تتكرر حوادث الشاحنات المهترئة التي تقل العمال في طرقات وعرة وسيئة الانارة. العشرات يفقدون حياتهم كل عام أو يعطبون. ويفترض أن تُدرج تلك كحوادث شغل تستوجب التعويض بحسب القانون، باعتبار أن النساء يكنَّ على متن حافلة تقلهن ذهاباً وإياباً بين المعمل وبيوتهن، بموجب عقد شراكة بين شركة تصبير السمك وشركة النقل.
بعد ذلك كان لنا لقاء مع ،م، واحدة من تلك النساء الـ30 اللواتي تعملن في قسم التقشير داخل المعمل. تقول أن الخطوط المرسومة على يدها الخشنة هي برهان لما قاسته طيلة الـ12 سنة عملت فيها بهذا القسم، مقابل دريهمات، مشيرة إلى أن هذا القسم من المعمل يُعد الأصعب وغالبية العاملين فيه هم نساء، لما تملكنه من دقة في التقشير والتنظيف: تقول المتحدثة وهي ترينا أصابع يديها المنتفخة، “أرباب العمل يفضلون النساء في مهمة التقشير، طبعاً لحرصهن على النظافة والدقة، ولكون النساء تعملن بضمير عال. ونحن نتخلى عن القفازات البلاستيكية المزعجة لننظف ونقشر السمك حتى يصير مادة خام من أجل التعليب، وهو القسم الذي يوظف فيه الرجال أكثر لأنه لا يتطلب مهارة خاصة”.. “انظر، فتارة تصيبك وخزة سيخ السمك، وتارة يلسعك الزيت الحار، ولكن ما الفرق؟ الأهم بالنسبة لأرباب العمل هو أن تنهي عملك كما يجب، وبحرفية عالية دون أن تقولي أخ، أو أن تشتكي ألم الظهر الذي يبقى مقوساً طيلة 10 أو 12 ساعة يومية ً“.
عند سؤالها عن حقيقة تفاوت الأجر بين العاملات والعمال داخل المصنع قالت ، م ، “هذا غير صحيح، جميع الأجراء يتقاضون الأجر نفسه الذي يتراوح ما بين 1200 و1400 درهم في الشهر حسب الساعات وموسم العمل، بما فيهم ذوو الأقدمية. صحيح هو أجر قليل جداً، ولكن هذا الموجود حالياً، وبالمقابل يحظى العمال والعاملات جميعهم بتصريح الضمان الإجتماعي لكن ذلك لا يكفي لضمان تقاعدك مستقبلا ، فضلاً عن استفادة بعضهن من الحضانة لأطفالهن إذا كانوا في عمر أقل من سنتين، والتي يُخصم أجرها من أجر العمل بمبلغ 50 درهماً في الشهر“.
آسفي .. وجه آخر للمعاناة عاملات تصبير السمك
عرفتْ صناعة حفظ السمك في أسفي و المغرب عل الخصوص تطوراً كبيراً منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ولعل هذا التراكم ساهم في اكتساب البلاد خبرة، حظي بفضلها على سمعة دولية مهمة في هذا المجال، سواء على مستوى جودة المنتوجات أو الكم، ليصبح المغرب من المصدرين الرئيسيين في العالم لنوع سردين . وكان المغرب قد خصص لهذا النشاط 47 وحدة تتمركز أساساً في آسفي (20 وحدة) وأكادير (12وحدة)، وتشغل 36.700 شخصاً، وتتميز بقدرة إنتاجية تفوق 3 آلاف طن يومياً.
مدينة آسفي معروفة بحركتها البحرية من خلال ترّكز عدد كبير من مصانع تصبير السمك على طول الشريط الساحلي، بعضها يشتغل والبعض الآخر مهجور. بنايات مشيدة بدون حياة..
تعود صناعة التصبير بآسفي إلى سنة 1930، وقد تنامت وتكاثرت حتى بلغ عدد الوحدات في فترة ذهبية 130 وحدة صناعية، تقوم بتصدير السردين و”الانشوا” و”الكابايلا” وغيرها من الخيرات. بل استغلت تلك المصانع لفترات من السنة في تصبير المنتجات الفِلاحية أيضاً كالطماطم والمشمش والكبار(وهي نبتة شوكية يعد المغرب أول منتج ومصدر لها في العالم ، وتستعمل في علاج التهابات الجهاز الهضمي، وفتح الشهية وتحسين عملية الهضم..).وكان هذا القطاع يشغل أكثر من 30 ألف من العمال والتقنيين والإداريين، إضافة إلى القطاعات المرتبطة به كالصيد البحري، والنقل، والتجارة بكل أنواعها، التي كانت تعرف انتعاشاً ملحوظاً في فترة عمل هذه المصانع، فتسميها العاملات “العفسة”، والتي تعني بالدارجة المغربية “وقت الذروة“.
غير أن قطاع التصبير بالمدينة، وعلى الرغم من تقدمه، لم يعرف تطوراً كبيراً لا على المستوى التقني ولا على مستوى رفع الجودة، الشيء الذي عرّضه لهزة حقيقية في تسعينات القرن الماضي، مع قوانين السوق كما فرضها الاتحاد الأوروبي، وهي تتعلق بالحصص وكذلك بمعايير الجودة. فتراجع إنتاج ميناء آسفي من صيد السردين نظراً لارتفاع نسبة التلوث وبداية هجرة السردين نحو الجنوب، الشيء الذي دفع المصانع إلى جلبه من موانئ الصحراء، وهو ما رفع أيضاً التكلفة بشكل ملحوظ وتسبب في إقفال أغلب المصانع، فتم تسريح أزيد من 20 ألف عامل وعاملة في السنوات الأخيرة من القرن الماضي.
كانت مدينة آسفي تضم زهاء 70 معملاً لتصبير السمك، ومصانع للصناعة الغذائية لل”كوانو” (طحين السردين)، ومصانع إنتاج “الكبّار”، ليتقلص العدد مع الكساد المعلن، وتقلص الثروة السمكية على امتداد الساحل، إلى 28 معملاً لتصبير السمك إلى حدود العام الجاري، 3 منها مصانع ل”كوانو”، و19 لتعليب السمك، و2 منها مختصة في منتوج “الكبّار”. وبالتالي لا يعمل اليوم في مصانع التصبير سوى القليل . ويقدر عدد العمال الموسميين في قطاع التصبير بمدينة آسفي ب4716 عاملاً، جميعهم نساء، موزعين بين 5 شركات تصارع من أجل البقاء، بينما لجأت أخرى إلى الاندماج فيما بينها لتتمكن من الوقوف بوجه الأزمة، بحسب المعطيات التي أمدتنا بها وزارة التشغيل.
نساء بوجوه شاحبة
وجوه شاحبة تكتسيها تجاعيد شيخوخة مبكرة، وعيون مترددة تعتلي ظهوراً تقوست من كثرة الانحناء. هذه اللوحة البائسة تتقاسم تفاصيلها النساء العاملات في معامل التصبير، سواء في أسفي أو مدن صناعية أخرى ، حيث تلك النسوة وبعضهن في ربيع العمر، وأخريات في خريفه، والبعض الآخر قاصرات، تنتظرن جميعهن في ساعات مبكرة قدوم شاحنة مهترئة لتقلّهن إلى معامل التصبير، مكدسات. أزيد من 14 كلم.
تحاول أولئك النسوة رسم ابتسامة مصطنعة، وهن يرددن داخل الشاحنة مزيجاً من الأغاني العربية والأمازيغية و الشعبية ، الممزوجة بالزغاريد، كنوع من التحفيز الصباحي لبعضهن على مجابهة قسوة الحياة التي جعلتهن يعملن بجهد مقابل راتب يومي يتراوح ما بين 6 و 8 دراهم للساعة الواحدة، وأحيانا يتقاضين الأجر بناء على عملية “التوناج” أو “البراكة” أو بعدد صناديق السمك. ذلك أن مردودية الشاحنة هي التي تتحكم في عملية دفع الأجر.
أساليب سرقة ساعات كل يوم من جهد العاملات
سعيدة، اسم مستعار لإحدى العاملات. كانت تسير بخطًى مسرعة وهي تحمل حقيبة بلاستيكية بداخلها خبز حاف وبرتقالة، من أجل إسكات جوع يوم بكامله. كانت مشيتها تسابق عقارب الساعة لتلتحق بالركب. هي تشتغل مياوِمة بمعمل لتصبير السمك بآسفي، فتحرص على أن تكون في الصفوف الأمامية للحافلة التي تقل العاملات إلى المصنع، لتضمن بذلك عملاً يومياً حتى وإن كانت تشتغل أكثر من الوقت القانوني. وهي تتقاضى أجرها الهزيل ( 1200 درهم شهرياً ، على دفعة واحدة آخر الشهر، عكس عاملات التصبير أخريات اللواتي يتقاضين أجورهن بصفة نصف شهرية.
تحكي لنا سعيدة عن دواليب “سرقة ساعات العمل” في مصانع التصبير في آسفي، فهي تعمل بـ18 درهماً مقابل تعليب كل “كارتونة” من علب السردين في المصنع، وهذا الرقم يتم ضربه من طرف المشغّل بعدد “الكارتونات” التي أنتجت في اليوم: على سبيل المثال إذا جرى إنتاج 1000 وحدة يكون المجموع هو 18 ألف درهم. تتم قسمة هذا الرقم على عدد العاملات في المصنع، والذي قد يصل إلى 400 عاملة، وبالتالي تكون أجرة كل عاملة هي 45 درهماً، ويتم تقسيمها مجدداً على 10.70 درهم (ثمن العمل مقابل الساعة في قطاع الصناعة الغذائية، منذ عام 2007 وفقاً للقانون المغربي) وهكذا يتم احتساب 4 ساعات وبضع دقائق في اليوم لسعيدة والأخريات من صديقاتها، بينما هي أثناء عمليات تعليبها تكون قد عملت زهاء 6 أو 8 ساعات ليلاً أو نهاراً.
تقول سعيدة، أن ظروف العمل داخل المصنع “هزيلة”، إذ أنها وزميلاتها اللواتي يشتغلن في قسم التقشير، مضطرات لمجابهة درجات الحرارة المنخفضة صيفاً وشتاءً، ما يجعلهن عرضة لأمراض الظهر والروماتيزم الذي أصابها منذ مدة بسبب التبريد الذي “يحافظ على السمك، ويستنزف صحتنا” على حد تعبيرها.
15 سنة مضت على اتفاقية ” لم تسمع بها العاملات“
في شهر آذار/ مارس من عام 2009، وقع الاتحاد المحلي لنقابة الاتحاد المغربي للشغل، و”مشغِّلو صناعة التصبير في آسفي” (أرباب العمل أو ما يسمى هنا نقلاً عن الفرنسية “الباطرونا”) الذين يتكتلون في جمعية، على اتفاقية جماعية، من أجّل حل مشكلة التعويضات العائلية، التي حددها مرسوم صادر في تموز/ يوليو 2008 (المادة الثانية منه). غير أنه وبعد مرور ما يزيد عن 15 سنة من توقيع الاتفاقية المذكورة، لم يتحقق للعاملات شيء مما ذكر فيها، بل إن أغلبهن لا تعلمن أساساً بوجود هذه الاتفاقية التي تنص إحدى بنودها على أنها تتجدد كل 3 سنوات بتمديد ضمني، بعد توقيعها بين الطرفين (الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل المحلي، وممثل للغرفة النقابية لصناعيي التصبير بآسفي(
تحاول أولئك النسوة رسم ابتسامة مصطنعة، وهن يرددن داخل الحافلة مزيجاً من الأغاني العربية والأمازيغية و الشعبية ، الممزوجة بالزغاريد، كنوع من التحفيز الصباحي لبعضهن على مجابهة قسوة الحياة. ففي مصانع آسفي، تتقاضين أحياناً الأجر بناء على عملية “التوناج” أو “البراكة” أو بحسب عدد صناديق السمك، وتضيع عليهن بهذه الحسبة ساعات عمل كثيرة.
كان الهدف من الاتفاقية المذكورة “تمرير قانون التعويضات العائلية، الذي فرض على العامل أن يتقاضى 60 في المئة من الحد الأدنى للأجور خلال “الشهر” إذا أراد الاستفادة من هذه التعويضات. ولايتعدى الحد الأدنى للأجور في قطاع الصناعة والتجارة 1200 درهم بالشهر، أما في قطاع التجارة، فبالكاد يصل إلى 800 درهم. غير أن عمال التصبير، ومع “ألاعيب سرقة ساعات العمل”، من خلال عدم التصريح بجميع الساعات التي اشتغلنها طيلة الشهر، فإن دخلهن الشهري لا يتعدى الحد الأدنى للأجور، وبالتالي حُرم الآلاف من العاملات والعمال من التعويضات العائلية إلى حدود مطلع 2024.
هل تحولت نقابة لخصم للعمال قبل رب العمل
أمي ،ح ، البالغة من العمر 61 سنة، والتي كانت تشْغل منصب “كابرانة” (مراقبة عمال) تحكي كيف أن الانتماء لنقابة بعينها أصبح إجبارياً داخل معامل التصبير، إذ “أنهم وإلى الآن، يفرضون على العاملات والعمال الانتماء إلى نقابة معينة من دون الأخرى، ومن ترفض، سرعان ما يتم طردها بالاتفاق مع صاحب المعمل، لأن الكاتب العام للنقابة متفق أساساً مع صاحب المعمل”. وتقصد أمي ،ح ، في حديثها إحدى النقابات المعروفة وطنياً، والتي لا تزال محتكرة لوحدها منذ أزيد من 25 سنة قطاع تصبير السمك في آسفي، “حتى أصبحت كل وافدة جديدة على العمل تُريد دخول المصنع، عليها أولاً زيارة مقر النقابة“.
انتهت رحلتنا بين مدينتي آسفي، غير أن جحيم الرحلة يبقى مستمر بالنسبة لأ لف العمال والعاملات في مختلف مصانع التصبير بأسفي التي تواري وراء أبنيتها الضخمة واقعاً يطال النساء بشكل خاص، اللواتي قذفهن شظف العيش إلى هذا القطاع.