ومن أجل التخفيف من آثار التغيرات المناخية، وانخراطا منها في السياسة الوطنية للحد من تداعيات التغيرات المناخية والاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، قامت الاستراتيجية الفلاحية على محورين رئيسيين، بحسب وزارة الفلاحة، وهما التكيف مع التغيرات المناخية والتخفيف من آثار الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وارتكزت الجهود المبذولة على تدبير وعقلنة استعمال مياه السقي. فيما اتجهت جهود التخفيف من آثار تغير المناخ صوب برامج توسيع المساحات المغروسة بالأشجار المثمرة بهدف الرفع من القدرة على امتصاص الكربون والتخفيف من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
ومن بين المشاريع التي أطلقها المغرب في إطار التكيف مع الجفاف، نعثر على مشروع التهيئة الهيدرو-فلاحية لحماية سهل سايس السقوي، مشروع تنمية الأركان في المناطق الهشة بتمويل من صندوق المناخ الأخضر، مشروع التنمية الفلاحية الشاملة المستدامة للتغيرات المناخية في وادي سوس، مشروع تحلية مياه البحر لسقي سهل اشتوكة، مشروع تأقلم الزراعة المسقية مع التغيرات المناخية بسافلة سد قادوسة، وأخيرا مشروع التأقلم مع التغيرات المناخية في مناطق الواحات.
تواجه الفلاحة المغربية اليوم، تحديا حقيقيا، بفعل توالي سنوات جفاف الأمطار، والإجهاد المائي، وتراجع حقينة السدود المغربية من 5620 مليون متر مكعب في 23 مارس سنة 2023 إلى 4282 مليون متر مكعب مقارنة بنفس الفترة في 2024، وانخفاض منسوب المياه في الفرشة الباطنية ببعض المناطق.
وفي ظل هذا الوضع، لم تعد الاستراتيجية متوسطة وطويلة الأمد، تفي بالغرض، نظرا للتهديد الكبير الذي يشكله غياب الماء على الأمن الغذائي المحلي، ثم مشكل الماء الصالح للشرب، فضلا عن تدهور الوضع الاقتصادي للفلاحين والمستخدمين في هذا القطاع الاستراتيجي بالمغرب.
ويعتبر ورش عصرنة الإنتاج الفلاحي في تدبير الماء، من بين الحلول الأكثر عملية في الوقت الراهن، تفاديا لمزيد من هدر الماء والزمن معا، بهدف تعزيز الاستدامة وزيادة كفاءة استخدام الموارد في الزراعة.
وقد خطى المغرب خطوات كبيرة في مجال تقنيات الري بالتنقيط والرش، حيث تم تجهيز مجموعة من الأراضي الفلاحية بهذه التقنيات، التي تساعد في تقليل تبخر الماه والتبذير المبالغ فيه.
وفي سياق متصل، كشفت مصادر جريدة بيان اليوم، أن السلطات العمومية المغربية المسؤولة عن الماء، بدأت تشتغل بنظام الاستشعار عن بعد ورصد المعلومات جغرافيا، من خلال البيانات التي يوفرها القمران الاصطناعيان محمد السادس “أ” و “ب”، اللذان يتبعان بالصور مستوى النشاط الزراعي، ورصد تطورات البيئة والتصحر، ناهيك عن الوقاية وتدبير الكوارث الطبيعية، فضلا عن رصد استخدام المياه السطحية.
في هذا الصدد، يقترح عزيز بن الطالب رئيس المركز الدولي للواحات والمناطق الجبلية، في تصريح لجريدة بيان اليوم، إعادة تدوير المياه العادمة واستخدامها في الزراعة، من أجل التقليل من الاعتماد على المياه العذبة والمحافظة على الموارد المائية الباطنية والسطحية.
ويرتبط الحفاظ على الماء كذلك، وفق الخبراء الذين تحدثت إليهم الجريدة، عبر التنويع التقني في الإنتاج الزراعي، بصيغة أخرى، تنويع المحاصيل الزراعية التي يمكن أن تساعد في تقليل تبخر المياه، والحفاظ عليها في التربة.
ولا يمكن تحقيق كل هذه الخطط إلا من خلال توعية وتحسيس الفلاحين بأهمية توفير المياه وتحسين إدارتها، عبر اعتماد التقنيات التكنولوجية العصرية في سلاسل الإنتاج الفلاحي البديلة لما هو تقليدي في التعاطي مع هذا المورد الحيوي الذي يجب أن نضع عامل الاستدامة في التعاطي معه.
وفي سياق متصل، تؤكد وزارة التجهيز والماء، أيما مرة، على محورية الأدوار التي تنهض بها الجوانب التحسيسية والتوعوية في اقتصاد الماء وتثمينه. إلى جانب الالتزام الجماعي بالحفاظ عليه وتنميته من أجل الاستجابة للحاجيات المائية التي تشهد تزايدا متواصلا في ظل الجفاف غير المسبوق الذي يشهده المغرب، خاصة خلال السنوات الست الماضية.
وتشير الوزارة في تقاريرها التي حصلت عليها جريدة بيان اليوم، إلى أن وضعية الإجهاد المائي باتت تدق ناقوس الخطر من خلال تفاقم ظاهرة ندرة الماء، داعية جميع المواطنين، كل حسب موقعه وعلاقته اليومية بالماء، إلى العمل على الحفاظ عليه والحرص على استعماله بمسؤولية.
وهذا الوضع، مهدد أكثر في المستقبل، بفعل التأثيرات السلبية المتزايدة للتغير المناخي على مواردنا المائية، لهذا تدعو الوزارة إلى البحث عن حلول عملية لتعزيز التأقلم مع آثار التغيرات المناخية لمواجهة الخصاص المائي.
ووقفت بيان اليوم أثناء إعدادها لهذا الملف، عند حجم البرامج التواصلية التي وضعتها السلطات العمومية بمختلف الجهات، لتحسيس المواطنين في مختلف المجالات بأهمية الحفاظ على الماء.
ونظرا لهذا الوضع الحرج، شرعت وكالات الأحواض المائية بمختلف المناطق المغربية، في تكثيف وتعزيز عمل دوريات شرطة المياه التي تضطلع بدور كبير في الحفاظ على الملك العمومي المائي على مستوى الأحواض، ومراقبة الموارد المائية لمواجهة شح المياه، وحماية الفرشة المائية من الاستغلال المفرط.
ويأتي تعزيز دور شرطة المياه في إطار البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي (2020 – 2027)، وذلك بهدف تدبير أمثل للموارد المائية.
في الحاجة إلى سياسة صارمة
ويرى فؤاد عمراوي أستاذ علوم المياه بكلية العلوم عين الشق بالدار البيضاء، أنه بقدر ما نتحكم في زراعات الخضروات والفواكه، التي نحقق اكتفاءنا الذاتي منها، “مازلنا للأسف رهينين للتساقطات المطرية على مستوى زراعات الحبوب، ومن المتوقع أن لا يتجاوز إنتاجنا هذه السنة معدل 30 مليون قنطار، بفعل جفاف الأمطار، علما أننا نحقق في السنوات الفلاحية الجيدة أزيد من 100 مليون قنطار، وهذا يعني أن الفلاحة البورية لا نتدخل فيها، كما هو الحال مع السقوية”.
وأوضح فؤاد عمراوي في تصريح لجريدة بيان اليوم، أنه لوحظ في السنوات الأخيرة، وجود بعض المشاكل في الزراعات السقوية ذاتها، “بفعل مشكل تراجع الماء ببعض الأحواض السقوية، والفرشات المائية، التي لم تصبح قادرة على تحقيق مواكبة حاجيات الفلاحين، خصوصا في وسط وجنوب المغرب، لأن مدن الشمال تعرف تساقطات مطرية لا بأس بها”.
وبخصوص مدى تأخر المغرب في التدخل لإنقاذ الوضع، كشف أستاذ علوم المياه بكلية العلوم عين الشق بالدار البيضاء، أن بلادنا لم تتأخر في مباشرة إجراءات تدبير أزمة الجفاف، “لأن كل شيء يأتي في وقته، ونعلم أن المغرب لديه إمكانيات مادية جد محدودة، لا تسمح له بالدخول في أوراش متعددة على مستوى عدة قطاعات”.
وزاد المتحدث ذاته موضحا، أنه “أثناء جائحة كورنا، وجه المغرب كل إمكانياته المالية للقطاع الصحي، وكذلك الأمر مع الزلزال الذي رصدت لآثاره غلافا ماليا مهما، وأتى الدور حاليا على تقوية البنية التحتية المائية، من خلال مشاريع الربط السيار المائي بين السدود، وتشييد محطات لتحلية مياه البحر”.
وأشار فؤاد عمراوي في حديثه للجريدة، أن هذا التأخر كان في صالح المغرب، إلى حد ما، على مستوى انخفاض القيمة المالية للتجهيزات، وتطورها التقني، لأن هذا المجال يعرف ابتكارات مستمرة بشكل دائم.
ويحتاج القطاع الفلاحي اليوم، بحسب المتحدث ذاته، إلى سياسة صارمة، “عبر فعل المراقبة، من أجل ضمان نجاعة إنتاجية إيجابية، بدل الاستمرار في تضييع المواد المائية كما كان الحال في السابق”.
وقال فؤاد عمراوي “من منطلق تقييمي الشخصي، لم نصل بعد إلى المرحلة الحرجة، مقارنة ببعض الدول التي لا تتوفر على الموارد المائية التي بحوزتنا، ولا يجب أن نكون متشائمين بشأن وضعنا، فإذا كنا في السابق ندبر الكثرة، فإننا اليوم ندبر القلة، والدليل هو أن أسواقنا مازالت بها الخضر والفواكه. ونأمل أن يواجه المغرب بكل مؤسساته التحدي الأكبر في فصل الصيف الذي نستهلك فيه الماء بكثرة”.
توخي الحذر من الإجهاد المائي
من جانبه، أوضح محمد الهاكش، رئيس الجامعة الوطنية للفلاحة سابقا (UMT)، أن ما يجب استحضاره أثناء أي نقاش يهم الجفاف بالمغرب، “هو أن المحيط الجغرافي لبلادنا، معروف بمناخه القاحل وشبه القاحل، وعشنا خلال فترات متقطعة، لا سيما في الثمانينيات والتسعينيات مشكل الجفاف، أي أنه ليس وليد اليوم”.
وأشار محمد الهاكش في تصريح لجريدة بيان اليوم، أن التساقطات المطرية التي تشهدها بلادنا، تكون بكثافة في المنطقة الشمالية التي تعتبر خزان المغرب المائي، وكذلك منطقة الوسط، “بيد أننا نلاحظ وجود تراجع خلال الست سنوات الأخيرة في منسوب التساقطات المطرية، أولا بفعل الحافز البيئي المتمثل في التغيرات المناخية، وأيضا لأسباب بشرية”.
والمطلوب اليوم، بحسب الهاكش، هو عدم الوقوع “في الأخطاء الخطيرة التي ارتكبناها سابقا، خصوصا في المجال الفلاحي، الذي يعتبر مستهلكا أساسيا للماء، لهذا يجب إعادة النظر في طرق تدبير الماء استنادا إلى اعتماد الآليات العصرية في الإنتاج الزراعي”.
وأشار المتحدث ذاته، إلى أنه ما يعاب على السياسة الفلاحية المغربية، هو منحها الأهمية بالدرجة الأولى للتصدير، بدل التركيز على تحقيق الأمن الغذائي الوطني بأسعار تتماشى والقدرة الشرائية للمستهلك المحلي، إلى جانب عدم مواكبة الفلاحين الصغار الذين يكون ليدهم ارتباط بالأرض بحسب تعريف الأمم المتحدة، على عكس المستثمر الذي يهمه بالدرجة الأولى تحقيق الربح.
وينصح محمد الهاكش، بالتخلي عن الزراعات المستهلكة للماء، خصوصا التي توجه للتصدير نحو أوروبا، وتزرع في المناطق التي تعاني من الإجهاد المائي مثل جهة سوس ماسة، التي بدأت ساكنتها تعاني بفعل الجفاف وقلة التساقطات المطرية، مبرزا أنه بالفعل تم الانتباه إلى هذا الخلل وإن بشكل متأخر، حيث تم وقف بعض الزراعات ببعض المناطق، وهو إقرار بالخطأ الذي كنا نقع فيه في السابق.
واعتبر الهاكش، أن ظاهرة حفر الثقوب في الأرض كانت آثارها وخيمة وأدت إلى جفاف الفرشة المائية ببعض الجهات، وبالتالي كانت ضربة قاضية لمواردنا المائية الباطنية.
ودعا في حديث مع الجريدة إلى محاولة توجيه الاهتمام أكثر للخضر والحبوب التي يستهلكها المغاربة بالدرجة الأولى، بتعبير آخر تحقيق الأمن الغذائي الوطني، لتجنب استيراد غذائنا من الخارج.
ولم تفته المناسبة للتنبيه إلى أنه في ظل جفاف التساقطات المطرية في السنوات الأخيرة، بفعل التغيرات المناخية العالمية، يجب الحذر وبشدة من الإجهاد المائي، “علما أن تقرير الخمسينية كان قد تحدث منذ زمن طويل عن إشكالية الإجهاد المائي التي سيواجهها المغرب مستقبلا”.
*********************************************************
محمد بنحريميدة : تفادي المزيد من هدر الموارد المائية رهين بعصرنة سلاسل إنتاج القطاع الفلاحي
قال محمد بنحريميدة أستاذ علوم التدبير بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إنه “لا يختلف اثنان على أن الكلفة الاقتصادية للجفاف عالية جدا، نظرا لما تشكله الفلاحة من أهمية ضمن المنظومة الاقتصادية الوطنية، لأننا نعتبر أنفسنا منذ زمن بعيد دولة فلاحية، وهذا أمر جيد، لأن أي دولة تتطلع إلى تحقيق سيادتها الغذائية”، مؤكدا على “أن نكون بلدا ينتج ما يستهلك، خير من أن نكون بلدا يضطر إلى استيراد حاجياته الغذائية. وعلى سبيل المثال، نلاحظ اليوم كيف أن الدول البترولية بحوزتها موارد نفطية كبيرة. لكنها لا تتوفر على بنية تحتية تمكنها من تأمين غذائها، ذلك أنها تستورد كل ما تستهلك”.
وسجل محمد بنحريميدة في تصريح لجريدة بيان اليوم، على أنه ما يلاحظ على قطاعنا الفلاحي استمرار ارتباطه بـ”التساقطات المطرية، يعني، إذا كانت السنة مطرة، تكون هناك وفرة في الخضروات والفواكه، وكذا الحبوب، والعكس صحيح. وهو ما يتضح اليوم مع الجفاف الذي يمر منه المغرب، حيث نجد الدولة منشغلة بشكل كبير بكيفية تحقيق الأمن الغذائي، لا سيما استيراد مادة القمح التي تعد مهمة في مائدة المغاربة، على اعتبارنا نحقق الاكتفاء الذاتي من الخضروات والفواكه”.
ويرى أستاذ علوم التدبير بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء أن الفلاحة المغربية، “محتاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى المرور بالسرعة القصوى نحو عصرنة جميع سلاسلها الإنتاجية، لتفادي هدر الموارد المائية، إلى جانب إعادة النظر في سياسة التصدير، خصوصا بالنسبة لبعض أنواع الخضر والفواكه التي تستهلك الكثير من الماء”.
وزاد المتحدث ذاته، موضحا أنه “صحيح، نحن في حاجة لتعزيز وجودنا في الخارج، وتطوير علاقتانا التجارية، لكن شرط أن لا تكون انعكاسات هذه الخطة، مدمرة لفرشتنا المائية، وأعتقد أنه من الحكمة بمكان، اتخاذ قرارات آنية بمنع بعض الزراعات المتطلبة للماء، والتركيز على تحقيق الأمن الغذائي المحلي بالدرجة الأولى، عبر تغليب المصلحة العامة على الفردية”.
وبشأن مدى تقييمه لنتائج التدابير التي تم اتخاذها على أرض الميدان، ذكر محمد بنحريميدة، أنه “لا يمكن الحكم عليها لحدود الآن، لأننا تعودنا بالمغرب، على وضع استراتيجيات ومخططات تكون نتائجها مبرمجة على المدى المتوسط أو البعيد، وهذا أفقد الثقة في طبيعة هذه السياسات، خصوصا إذا فشلت في تحقيق المبتغى المرجو منها، وعندها لا يمكن أن تحاسب مسؤولا لم تعد تربطه بالمهمة أية صلة، لأن المخطط تم وضعه على برنامج زمني يتراوح بين 10 و15 سنة”.
وشدد بنحريميدة في الأخير، على أن المغرب في “حاجة إلى إجراءات عاجلة، نظرا لأن مشكل الجفاف أصبح مطروحا بحدة كبيرة، ولا يخفى على الجميع أن انعكاساته سلبية على القطاع الفلاحي، الذي ارتفعت منتوجاته بفعل غلاء أسعار المحروقات، وهو ما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، ونتابع اليوم وجود العديد من الإضرابات في قطاعات مختلفة، يطالب موظفوها بالزيادة في الأجور لتحقيق التوازن الذي اختل في السوق”.
إنجاز: يوسف الخيدر